الاثنين، أبريل 05، 2010

1 - الزبالة لاتزال في بيتي ......

منذ حوالي أربعين عاما" كنت أعيش فى منطقة بحرى بجوار كورنيش الإسكندريه، و ما أدراكم ما الأسكندريه فى هذا الزمان الجميل.


فى هذا الوقت من الزمان كنا علي قناعة تامة أن عكس مدلول كلمة نظافة - لدي الشعب السكندري بالخصوص - تعني فقط عدم الإستحمام.....نعم عدم الإستحمام.

لم نكن نعلم شيىء عن قذارة الشوارع ورمى المخلفات فى الشوارع ، لأن الشوارع كانت نظيفة ... دائما نظيفة بالشكل الذى لم نكن معه نحاول التفكير في معنى مصطلح شوارع غير نظيفه( شوارع قذرة) لإن النظافة كانت هي الأساس وماغير ذلك هو إستثناء إذا أمسينا به ، أصبحنا بدونه.

فى كل صباح و أنا ذاهب إلي المدرسة كنت أرى عم زخارى الزبال و هو على عربته الكارو الخشبيه التى يجرها بغل قوى يقف على ناصيه الشارع ليجمع كل أكياس وأكوام الزبالة الموجودة في مكان محدد تم الإتفاق عليه بين أهالي المنطقة و إن لم يحدد بسلطة الحكومة أو بطلب من الحي أو بتوجيهات من المحافظة . كان المكان هناك وكأنه قد كتب عليه مكان وضع الزبالة - وإن لم يكن مكتوبا - ولكنه كان معلوما لدينا جميعا أن هنا سيأتي عم زخاري الزبال ليجمع القمامة في الصباح الباكر فكنا جميعا نلتزم بدون طلب إلتزام . وكان عم زخاري يصحب معه كل يوم إبنه الصغير - الذى لم أعرف إسمه حتى الأن - ليعمل معه وكنت دائما أراه منكفأ علي الأرض و هو يمسك بيده لوح خشبى ليجمع بقايا الزباله التي تناثرت على الأرض و يلقيها فى العربه .

لم تكن مهمة عم زخارى فقط هي أن يجمع الزبالة في العربة و يأخذ الشهريه ، ولكن كانت مهمته الأساسيه هى أن ينظف الشارع من الزبالة التى نلقيها نحن ، لهذا كان يستخدم إبنه الصغير ليجمع كل القاذورات التي وقعت من الأكياس سواء لإننا لم نغلق الأكياس جيدا أو بفعل القطط التي كانت تقتات مساءاً من هذه الغنيمة حتي يكون المكان الذي يلقي فيه الزبالة كل يوم نظيفا تماما خلال اليوم .

كان الشئ الملفت للنظر أن هذا الولد الصغير كان يؤدي مهمته بكل جدية ولم يكن يفكر أبدا آن يترك مهمته التي أوكلت إليه لكي يقوم بالعمل الأسهل نوعا من حمل الأكياس وإلقائها في العربه ولكنه كان ينحني علي الأرض وبيده الجاروف الخشبي وبكل الهمه يجمع القاذورات ويرفعها ليلقيها في العربه وعلي وجهه إبتسامه ملائكيه تنم عن الرضا والسعادة لإنه يعمل علي أداء وظيفته وينفذها في صمت بكل دقه لدرجة أننا كنا نجد المكان بعد إنتهاء عم زخاري من عمله نظيف وكأنه لم يكن به ماكان .

كنت أتعجب كل يوم من هذا الصبي الذي لم يكن يذهب مثلنا للمدرسة ولكنه يعمل مع أبيه ويساعده في عمله الذي نراه اليوم مقذذا وإن كنا وقتها لانراه هكذا. كنا جميعا نعلم أن هذا الرجل وإبنه هم الذين يدخلون السعادة علينا بعملهم هذا ولم يكن أحد منا يجرؤ علي التهكم علي هذا الرجل أو أن يعامله بشئ من الأحتقار.
لقد فرض الرجل علينا إحترامه ليس لبنيانه القوي أو لسانه الزالف ولكن بتفانيه في عمله الذي كان يتقنه آي أتقان ويفهم تماما ماهية مهمته بالرغم من عدم وجود أحد يراقبه ليسجل مستوي أداؤه المهني أو ليحدد بالتبعية راتبه أو يوقع عليه خصومات عند تقصيره. لطالما إحترمت عم زخاري ولم أكن وقتها أقول له سوي عم زخاري بالرغم من جلبابه الرث وشكله الفظ ولكنه كان ولايزال عم زخاري رمز النظافة في منطقة بحري بالإسكندرية.

المدهش في الأمر أن مهمة نظافة الشارع لم تكن موكولة فقط لعم زخاري ولكن مع بداية وقت الضحي تبدأ المحلات في فتح أبوابها وكان هناك طقوس أخري للنظافة ثابته يعرفها جيدا من عاش في هذه الحقبة في الأسكندرية .

تبدأ هذه الطقوس بفتح أبواب المحلات والبدء في تجهيز وتنظيف المحل من الداخل وترتيب البضاعة ثم يبدأ العمل الخارجي وفي خلال نصف ساعة (من الساعة التاسعة والنصف وحتي الساعة العاشرة) نجد العاملين بالمحلات بالتناوب يقوم كل منهم منفردا بتنظيف الشارع أمام المحل وذلك بإزالة التراب عن واجهة المحل و البدء في كنس الأتربة ثم رش الماء أمام المحل في منظومة غريبة غير متفق عليها ولكنها تعمل بتناغم غريب جدا . كل محل ينظف أمامه ويسحب الأتربة إلي مكان في طرف الشارع ليبدأ من هو بعده وهكذا ثم يبدأون في رش المياه .

كنت إذا مررت بالشارع بعد الساعة العاشرة صباحا تجده نظيفا مغسولا يشع بالنظافة بالشكل الذي قد يوحي لبعضنا الآن أن هناك مسئولا كبيرا سيمر بالمنطقة وأن الحي يقوم بعمله علي أكمل وجهه في الترتيب لزيارة السيد المسئول لحينا المتواضع ولكن حقيقة الآمر أننا في هذا الوقت من الزمان كنا قد أستغنينا عن خدمات الحي بتوزيع الأدوار علينا وكان كل واحد منا يقوم بعمله بمنتهي الجدية والإتقان وكأنه مكلف من قبل أهالي المنطقة والحي بل والمحافظة لهذا العمل .

طاف كل ذلك بخاطري عندما كنت أتأهب للنزول من البيت وأثناء إنتظاري للمصعد شاهدت رامي الزبال وهو يقف علي الدرج حيث إعتدنا أن نقوم مساء كل يوم بتجميع الزبالة في كيس أسود كبير وإحكام غلقه جيدا ومن ثم وضعه في صندوق خاص بكل طابق حيث يأتي رامي الزبال صباح كل يوم لجمع هذه الأكياس المقفلة بعناية والنزول بها.

في أثناء إنتظاري للمصعد رأيت الأستاذ رامي الزبال يقوم بفتح الأكياس وإفراغ بعض محتوياتها ووضع بعض الأشياء بجانب صندوق الزبالة ويلقي بباقي الكيس في القفة التي يحملها مما إسترعي إنتباهي وجعلني أستوقفه وأسأله:

أنا : إنت بتعمل أيه؟

رامي الزبال : أبدا يابيه ، بس الحاجات دي تقيله قوي وموش حاقدر أنزل بيها

أنا : أيوه بس إنت بتفتح الأكياس وبتوقع الزبالة علي الأرض

رامي الزبال : طب وأنا أعمل أيه يعني ، ما أنا برضه بني أدم وماقدرش أشيل الحاجات دي كلها

أنا : طب والحاجات اللي علي الأرض دي مين حيشلها؟

رامي الزبال : البواب يابيه ، ماهوه حايطلع بعد شوية ينظف السلم

أنا : يعني إحنا بندفع لك كل شهر علشان تنقي الزبالة اللي إنت عايزها وتسيب الباقي وكمان تشغل البواب علشان يلم وراك

رامي الزبال : والله انا ماقدرش علي كل ده وبعدين دي الشهرية اللي بنخدها منكم ولامؤخذاه ملاليم ولو تعابنين قوي بلاش منها خالص وأديكوا بتدفعوا للحكومه مع الكهربا رسوم للنظافة. خلاص خللي الحكومة تنظف مادام بتدفعولها هي كمان ولا لامؤخذاه ماقدرتوش علي .............. لامؤخذاه وحتقدروا علينا إحنا.

أسقط في يدي ، ليس لما يفعله الأستاذ رامي الزبال والذي ينم عن منتهي الجهل بمهام مهنته الأساسية والتي علي أساسها تم الأتفاق معه ليقوم بها .. ألا وهي نظافة العمارة والتي قام هو بإختصارها في إزالة مايستطيع أو مايريد من أكياس الزبالة وأن يوكل للبواب بفرمان شخصي منه مهمة النظافة من خلفه. ولكن ماأدهشني حقا هو الفكرة نفسها ...

لقد قرر الأستاذ رامي الزبال أن هذا هو نطاق عمله وأن الرسوم الشهرية التي ندفعها ستكون في مقابل حمل مايقرر هو من أكياس وتنزيله إلي عربته وأن هذه الرسوم لاتكفي إلا لما قد قرر هو عمله. وبمنتهي البساطه أصبح هذا القرار ملزما لنا حسب رؤيته ولايمكننا حتي مناقشته فيه وإلا فعلينا أن نذهب إلي الحكومه التي تأخذ منا خمسة جنيهات أخري شهريا مضافة إلي فاتورة الكهرباء مقابل أعمال النظافة ومطالبتها بأن تساعد الأستاذ رامي في عمله .

كان وقع المفاجأة شديد للدرجة التي ألجمت لساني عن مناقشة الأستاذ رامي . ولكنني أستجمعت قوتي وأفكاري بعدها بيومين وقررت مناقشة الأمر مع رئيس إتحاد ملاك العمارة وذهبت للتحدث معه ..... وكانت المفاجأة أكثر إيلاما

لقد إشتكي معظم السكان من معاملة الأستاذ رامي الزبال وتم مناقشة الأمر حتي تم التوصل إلي الحل الذي سيريح كل الأطراف بأن ندفع خمسة جنيهات للأستاذ رامي ليزيل مايحلو له من زبالة ثم نقوم بدفع خمسة جنيهات أخري للسيد البواب ليزيل ماألقاه الأستاذ رامي أثناء تناوله مهام عمله ويقوم بوضعها بالقرب من صندوق الزبالة العمومي ثم نقوم بدفع خمسة جنيهات أخري للحكومة مع فاتورة الكهرباء لإزالة الزبالة الملقاة بجوار صناديق الزبالة العمومية – والتي نادرا ماتكون داخلها وتكون في العادة بجوارها – وبهذا نكون قد قسمنا العمل علي ثلاث جهات والموضوع بسيط دي كلها خمسة جنيه ياباشمهندس ويمكن يكون رزق للبواب كمان ويجعله عامر.

المهم في هذه القصة الإنسانية العظيمة أن الزبالة كانت ولازالت يلقي بها علي ناصية الشارع حيث يستطيع الأعمي أن يشم رائحتها إذا لم يكن يؤذيه منظرها والذباب يتجمع فوقها والقطط تتنطط عليها لتختار مايناسب شهيتها اليوم من أطعمه. لقد تم دفعنا جميعا لقبول الأمر الواقع الذي أعطي الحق للأستاذ رامي الزبال بأن يأخذ مايريده أثناء زيارته الكريمة لعمارتنا في الصباح الباكر ويقوم البواب بإنزال الباقي ووضعه بجوار صندوق الزبالة العمومي والذي لايتم تجميع الزبالة منه إلا مساءاً فقط وذلك برفع الصندوق وإفراغه في السيارة أما الزبالة التي بجانبه فإن الأكياس المقفلة فقط ترفع وتلقي في السيارة وماوقع منها أو أفرغته القطط يترك في مكانه حتي يكون علامة ظاهرة مرئية ملموسة مشمومة لكل سكان الحي أنه في هذا المكان يتم إلقاء الزبالة.

تري أين تكمن المشكلة ؟

عندما تخلينا نحن بإرادتنا سواء مجتمعه أو منفردة عن دورنا في الحفاظ علي نظافة شارعنا وأوكلنا الموضوع برمته للحكومة فإنه قد تولدت لدينا قناعة غريبة أن الحكومة تعمل لدينا وأننا نقبع في جهة العميل الذي ينتظر خدمة مميزة من القائمين علي خدمتنا وجلسنا ننتظر هذه الخدمة ونقيم العاملين عليها . وعندما إنحدر مستوي هذه الخدمة وأصبحت تمثل مشكلة صحية وجمالية وإجتماعية لم نتحرك بل جلسنا نلوم علي الحكومة التي لاتقوم بدورها ونسينا أننا نحن المتضررين من هذا التقصير وأن تحسين مستوي الخدمة سيفيدنا نحن قبل أن يفيد الحكومة .

لقد طبقت علينا الحكومة علينا ثقافة الذراع عندما أرغمتنا سواء بموافقتنا أو بعدمها علي دفع مبلغ مقطوع كل شهر مقابل خدمة النظافة والتي تحولت للأسف لخدمة عكسية والدليل الزبالة الملقاة علي جانب صناديق الزبالة العمومية. وفي المقابل قام الزبال العصري بتطبق ثقافة الذراع علينا وذلك بأخذه مايريد من زبالتنا بقرار منفرد منه والباقي يجب علينا نحن التصرف فيه بطريقتنا وعلي حسابنا وبذلك أستحلتنا الحكومة كما أستحَلنا أيضا الزبال العصري وجلسنا نحن جميعا في جهة المُستحَل نلوم علي الحكومة وندعو علي الزبال ولايحرك ذلك ولا تلك فينا ساكنا ونحن ندفع لهذا وذاك مقابل أن يأخذوا زبالتنا ليرموها أمامنا في شارعنا وهم يخرجون لنا لسانهم ويقولون لنا ..... اللي موش عاجبه ....يشوفله عم زخاري يبكي عليه.

ألم يأن الأوان لإن ننتفض رافضين أن نُستحَل أكثر من ذلك ؟

تخيلوا معي كم سيكون نصيب كل شقة تقع في عمارة تحتوي علي الأقل علي عشرين شقة إذا ماقرروا شراء أربعة صناديق زبالة كبيرة يتم وضعها أمام العمارة حيث سنجبر الأستاذ رامي علي إفراغ محتويات الصناديق مباشرة في عربته طالما هو لايستطيع حملها وتنزيلها. ولماذا لانقوم نحن بإنزال زبالتنا إلي الصناديق مساء كل يوم مثلما يفعل كل الناس في الدول المتحضرة في وروبا وأمريكا ؟

لماذا لا نعلن عن عدم إستسلامنا لقوة ذراعهم ونبدأ في إستعمال عقولنا لنجد الطريقة التي تجبرهم علي إحترام عقولنا ؟


هناك تعليقان (2):

Architect يقول...

هو اقتراح خيالى رائع لكن المشوار يبدا بخطوة
ولو تم اخذ الخطوة الاولي فى هذا الاقتراح ممكن نقول انى فى حاجات كتيرة ممكن تتغير وتساعد على رقى المجتمع وتقدم البلد من الناحية الاقتصادية والثقافية

احمد الكاشف يقول...

في ظل الحكومة الحالية اشك ان هذا القانون سوف يؤخذ به ابسط مثال التاميفلو و propaganda الفوانزا الخنازير و الرعب الي ملا الناس من مرض وهمي الغرض بس ان الناس تشتري الدوا و الشركة تكسب مين الشركة مين صاحبها مين مستفيد مش عارف بس الموضوع نصبه على مستوى عالمي لو قللنا ال scale شوية بالنسبة لمصر اعتقد ان الخطوة رقم واحد هو ان الدكتور يرجع دكتور تاني بقيمتة بمرتبة الي اصبح حاجا تحزن
على فكرة انا لحد دلوقتي مش عارف اه موقفي من التامينات !!!!!!!!