الأحد، أبريل 11، 2010

6 - إشارة مرور ...


أحمر ... قف ،

أصفر .... إستعد ،

أخضر ..... سر

كلنا تربينا علي مبادئ المرور وإشارات المرور والتي لم تكن قاصرة فقط علي السيارات في الشوارع ولكنها كانت نظام حياة وأساسيات نتداولها فيما بيننا كأسلوب تعامل حضاري ينظم العلاقات بيننا وبين الآخريين سواء في المنزل أو العمل أو حتي في النوادي والسينمات والمقاهي.

قد يجد البعض ما أقوله مستغربا لأننا لم نعتد علي وجود إشارات مرورية في مكاتبنا أو منازلنا بحيث إذا أراد أحدنا الذهاب إلي الحمام فعليه الإنتظار حتي تصبح الإشارة خضراء لكي يستطيع الدخول ...............

وبطبيعة الحال ، فإن هذا ليس بمقصدي ولكنني أتحدث هنا عن وجود هذه الإشارات الضوئية داخلنا تلقي بظلالها علي تعاملاتنا مع بعضنا البعض ، بل تضع حدود وخطوط فاصلة في إحترامنا لذاتنا وللأخريين من حولنا و تزرع داخلنا قيما سامية من وجوب إحترام القانون ولوائحه التنفيذية والعاملين عليه حتي إذا ماتعارضت هذه القوانين أو اللوائح التنظيمية مع متطلباتنا ومواعيدنا وإلتزاماتنا الشخصية.

عندما كنا نجلس في أتوبيس المدرسة ونحن صغار ، كنا نستمتع بالنظر من خلال نافذة الأتوبيس علي السيارات التي تقف بجانبنا في إشارة المرور ونحن نقوم بإرسال سلامات للناس من حولنا وضحكة صافية بريئة تعبر عن كل مشاعر المودة والآمان وبحيث كانت إشارة المرور هي محطة تتلاقي فيها العيون لترسل فيما بينها إشارات التحية والمودة.

وكنا عندما نصل إلي المدرسة ويقف الأتوبيس علي ناصية الشارع لينزلنا ، كنا نقف في صف منتظم مع المشرفة علي الرصيف في إنتظار العبور إلي الناحية الآخري من الطريق . ووقتها كان يطل علينا عمو طلبة الإشارجي – الصول طلبة عسكري المرور – ويأتينا مبتسما وهو يقول: إمسكوا في إيد بعض ياولاد

نحن : حاضر ياعمو طلبة

عمو طلبة الإشارجي : ماحدش يعدي إلا لما أقولكم

نحن : حاضر ياعمو

عمو طلبة الإشارجي : إستنوا لما الإشارة تبقي خضرا وإمشوا ورايا

نحن : حاضر

عمو طلبة الإشارجي : ياللا ياولاد ...... مع السلامة

كنا أطفال صغار تملؤنا البراءة ونحن نتلقي تعليمات المرور من هذا الرجل الجميل ... عمو طلبه الإشارجي ببذلته المنمقه والتي كنت أشعر معها أنه في وجاهة لواء بهذا العصر . كان عمو طلبه دائما مبتسما وهو يرسل لنا بتعليماته الحازمة وكنا لانشعر أبدا بأي ضيق ونحن نلتزم بتعليماته ، بل كنا نشعر بالأمان لأن هناك شخص مسئول يقف في عز الشمس ليؤدي واجبه بحزم ورِقة في نفس الوقت وبجدية لاتخلو من إبتسامة تبعث فينا الطمأنينة.

كانت إشارة المرور بالنسبة لنا هي نقطة تأمين نقف عندها لتشعرنا أن هناك من يهتم لنا ولسلامتنا وأن هناك دور لرجل البوليس في إشاعة جو الأمان في هذه البلد الأمنة بحكم ألهي ، ولهذا كنا نصدق فعلا أن الشرطة كانت في خدمة الشعب ولما لا ونحن نري رجال البوليس في حلتهم الزاهية يقفون لينظموا تحركاتنا وليتأكدوا أن كل منا يأخذ حقه حتي ولو كان حقه هو أن يعبر الطريق في الوقت المحدد والذي تشير له إشارة المرور ودون أن يجور أحد علي حق الأخر .

ولكن مع تغير كل شئ في مصرنا ، تغيرت أيضا قوانين المرور وقامت وزارة الداخلية بتطبيق الثقافة الجديدة التي أنتشرت كالسرطان في دماء هذا الوطن (ثقافة الذراع) وقامت بإستبدال تقاطعات المرور التي كانت تتزين بإشارات مرور تذكرنا دائما أن لكل منا وقت محدد يستطيع فيه المرور وعمل مايريده وأن هناك أوقات أخري علينا فيها الإنتظار حتي يفرغ الآخريين من أخذ حقهم والمرور إلي مبتغاهم. لم تكن إشارة المرور مجرد مصابيح كهربائية تضئ بألوان مختلفة ، ولكنها كانت أسلوب حياة ينظم العلاقة بين الأفراد ويفرض سطوته علي ثقافة الشعب ليعلمنا جميعا أن إنتظار الدور في الترقي هو أمر حتمي وأنه لايصح أبدا في ظل هذه الثقافة إستعمال الذراع لأخذ حق لانستحقه حتي ولو كنا في أشد الأحتياج لهذا الحق.

في ظل تطبيق إشارات المرور ، لا يجرؤ أحد علي المرور والإشارة حمراء وكلنا يلمس هذه الحقيقة عندما يسافر إلي الخارج ويري الإلتزام بإشارة المرور الحمراء حتي ولو كانت التقاطاعات الأخري خالية من السيارات ، ولكن لأن النظام مطبق يقف الناس في إنتظار دورهم بغض النظر عن الفرصة المتاحة والتي لايصح أبدا أن نأخذها بالذراع بل ننتظر وننتظر حتي تصبح الإشارة خضراء ، ووقتها فقط نستطيع أن نتحرك لأخذ فرصتنا وكما لم نضايق أحد وهو يأخذ فرصته فإن النظام يضمن لنا أن أحدا لن يضايقنا ونحن نأخذ فرصتنا.

لكم أحن لإشارة مرور تستطيع أن توقف هذه الثقافة الغريبة التي إستشرت فينا وأصبحت واقعا أليما نعيش به ونتعايش معه بل ونبرره فيما بيننا في محاولة يائسة منا لإقناع أنفسنا أنه إن لم نكن نحن جزء من هذا النظام فإننا سنكتوي بنيران هذا النظام . وهنا تكمن سخرية القدر لإننا ونحن جزء من هذه الثقافة نكتوي بنيرانها كشعب يفقد هويته وعندما نحاول أن نقف أمامها نكتوي بنيرانها كأفراد خارجة عن النظام ولاتستحق إلا أن تُستحَل.

كنت أقف بأحد التقاطعات الشهيرة بقاهرة المعز – وسبحان المعز المذل – والتي نزعت منها إشارة المرور وتم تحويل المرور بها إلي الدوران الذي يجبرنا علي السير لمسافة حوالي النصف كيلومتر ثم العودة مرة أخري للخلف وهو نظام يتم إتباعه في كل الدول المتقدمة وكلنا رأينا هذه الدورانات عند سفرنا ولكننا أبدا لم نري هذا الزحام الجنوني الذي يتولد عند كل دوران إلا في مصرنا الحبيبة بحيث أصبح هذا الدوران مشكلة بذاتها وبدلا من أن يحل مشكلة التقاطع الذي كان يعمل سابقا بإشارة مرور أصبح وياللعجب لايعمل في ظل هذا الإختراع العبقري.

أقف في الطريق منتظرا للفرصة التي ستسنح لي لكي أتجه لليمين ومن حولي السيارات تطلق صافرتها بشكل جنوني لإن الطريق في إتجاهنا لايسير وكأنه قد تم إغلاقه لفترة من الزمن. وكان أكثر مايصيبنا بالجنون أن الطريق أمامنا يسير ببطء .. نعم ولكنه يسير ولاأحد يعبأ لطابورنا الذي يقف في مكانه وقد شٌلت أوصاله.

وعندما حاول أحد الأشخاص أمامي التقدم بسيارته ليسير في طريقه ويتجه إلي اليمين أوقفته إحدي السيارات في الطريق السائر بأن أغلقت عليه الطريق وبدأ صاحب السيارة السائرة في إلقاء المواعظ:

الشخص السائر : ماتخللي بالك يافندي

صاحب السيارة الواقفة : طب إتفضل ياللا

الشخص السائر : ولو ماتفضلتش ... إيه حاتخبطني

صاحب السيارة الواقفة : ياعم لا أخبطك ولاتخبطني .. إتحرك

الشخص السائر : ياسلام ... هوه إيه بالدراع

صاحب السيارة الواقفة : إنت حتدينا درس في الأخلاق .. إتحرك بأقولك

الشخص السائر : ولو ماتحركتش .. حتعمل إيه إن شاء الله

صاحب السيارة الواقفة : لأ .. ده أنت قليل الأدب بقي

الشخص السائر : قليل الأدب يابن ال ...... تييتت

وتحولت إشارة المرور بقدرة قادر إلي حلبة صراع بين فريقين أحدهما مؤيد لصاحب السيارة الواقفة الذي ضاق ذرعا بوقوفه لمدة خمس دقائق في إنتظار أن يسمح له عابري الطريق الآخريين للإنحراف يمينا والأخريؤيد صاحب السيارة السائرة الذي يحاول الآخر الإعتداء علي حقه بأن تجرأ وحاول المرور أمامه وبين الفريقين جلست في سيارتي وأنا أتذكر عمو طلبه الإشارجي.

تري أين تكمن المشكلة ؟

لإن الدولة قد تخلت عن دورها في فرض النظام وقامت طواعية بالتنازل عن سلطاتها التنفيذية والرقابية في الشارع للشعب بحيث يقوم أفراد الشعب بتنظيم علاقاتهم كل حسب أولوياته وقوة ذراعه ، فقد تولد داخل كل واحد منا الشعور بأنه يمتلك هذا الحق طالما هو فرد من هذا الشعب وله الحق مثل الآخريين في أن يعبر ولو فوق رقاب الآخريين.

لقد فُرض علينا الأمر بثقافة الذراع والعجب العجاب أنه بدلا من أن نعنرض علي هذا النظام الذي يثبت فشله يوما بعد يوم ، قمنا بالإستسلام له بل وتطبيقه فيما بيننا وكأننا علي أتم القناعة أن هذا النظام هو فقط الذي يصلح لنا.

لقد أٌستحَللنا عندما فرض علينا الأمر الواقع وقبلناه ولم نبدي أي إعتراض وأصبحنا للأسف نقبع الآن في جهة المستحِلين لأنفسنا ونحن نطبق مايجب أن نرفضه ونبرر ذلك لأنفسنا بأنه طالما لانستطيع تغيير ماتم فرضه علينا فلنقبله ونطبقه لأن هذا هو القانون السائد وإلا أصبحنا واقفين في جهة المٌستحَلين حرام ....... حرام.

تري هل سيأتي اليوم الذي سنري فيه عمو طلبه الإشارجي مرة أخري أم أننا سنظل قابعيين في أماكننا في إنتظار أن يفسح لنا أحد الطريق لنصل فقط ... إلي نقطة الدوران للخلف.



ليست هناك تعليقات: