الخميس، أبريل 08، 2010

3 -إكسر طابور ...........


من منا لم يدخل طابور في حياته ...؟

سؤال هام جدا أساله لكل أصحابي وزملائي وأجزم أن الإجابة واحدة ....... لا أحد ، فكلنا مررنا بتجربة الطابور حيث تتلاقي رغبات وإحتياجات العديد من الناس في نفس الوقت الذي يتجمعون فيه لقضاء هذه الإحتياجات وعندها يكون هناك إحتمال من ثلاثة لا رابع لهم:

الإحتمال الأول : أن يتجمع الناس في لا نظام وبشكل عشوائي بحيث يتمكن الأقوي – والأقوي فقط – من الوصول إلي نقطة البيع والحصول علي مبتغاه . أي أن يقبل الجميع أن يطبقوا مبدأ البقاء للأقوي وعلي الضعيف الإنتظار

الإحتمال الثاني : أن يصطف الناس في طابور منتظم كل حسب وقت وصوله في إنتظار أن يأخذ حاجته حسب مكانه في الطابور وبغض النظر عن قوته أو ضعفه. أي أن يقبل الجميع أن يحترم كل منهم الآخر لشخصه وليس لذراعه

الإحتمال الثالث : أن نقف في طابور بحكم النظام الذي يفرضه المكان ونجد شخصا ما يأتي من خارج الطابور إما لقوته أو لواسطته أو لنقديته ويأخذ مايريده عيانا جهارا ونقف جميعا ونحن نمصمص شفايفنا أو نبرطم ببعض كلمات الإمتعاض التي تعبر عن رفضنا وتثبت في نفس الوقت إستسلامنا

إستحضرني الآن لقطة لممثل أسمر جميل لم أره إلا في فيلم واحد مع الفنان القدير عادل إمام – فيلم الإرهاب والكباب – وهو يقف كل مره أمام عادل إمام ليخبره كيف يكون متحضرا ويستشهد علي كلامه كل مره بقوله : في أوروبا والدول المتقدمه يفعلون كذا وكذا حتي بلغت الكوميديا مداها عندما قام عادل إمام بسؤال المحتجزيين أمامه عن أقصي مايريدونه من حكومتهم التي ستفعل أي شئ حتي لايفجر مجمع التحرير . ويفكر الجمع .... ويعيدون التفكير ثم يقومون بتحديد مطالبهم في الكباب والكفته ... !!

المهم هنا ليس في الكباب الذي هو كل مطالب الشعب من حكومتهم ولكن فجأة يطل علينا هذا الأسمر الظريف ليعلمنا كيف يمكن أن نكون متحضريين حتي ونحن نطلب الكباب والكفته من الحكومة ليقول لنا:

في أورويا والدول المتقدمة يأكلون مع الكباب طحينه ...

لاأعلم بالتحديد ماهي العلاقة بين ماذكرته للتو وبين إحتمالات الطوابير التي كنت أتكلم عنها منذ قليل وإن كنت علي يقين أنه في أوروبا والدول المتقدمة يصطف الناس في طابور منتظم كل حسب وقت وصوله أي أن الإحتمال الثاني هناك هو القاعدة التي يحترمها الجميع حتي وإن تجاوزها البعض ليلجأوا إلي الإحتمال الثالث إلا أن هذا يعتبر الإستثناء الذي يثبت القاعدة ولايلغيها أبدا.

في أوروبا والدول المتقدمة يصدق الناس في ثقافة الطابور وأن لكل منا دوره الذي سيأخذه نظير إجتهاده في أن يصل في الوقت المناسب وأن الوقوف في الطابور هو ضريبة ندفعها مقابل إحتياجاتنا لإننا جميعا سواسية إذا ماإحتكمنا إلي رغباتنا ومتطلباتنا لا إلي مكانتنا وإمكانتنا.

في إوروبا والدول المتقدمة يقف الناس في طابور لشراء تذاكر المسرح والأوبرا وأمام ماكينات الكاشير في السوير ماركت كما يقفون طابور في محطة المترو والأتوبيس. ولأن هذه الثقافة هي الأساس في تعامل الناس مع بعضهم هناك ، وجدناهم يبتكرون وسائل تسلية لقضاء الوقت في الطابور. فنجد الكثير منهم وفي يده كتاب أو جريده يقرأها وهو يقف في الطابور في إنتظار إنقضاء دوره أو يسلي وقته بلعبة الجيم بوي .....

وبمجرد التفكير البسيط في هذا الأمر نجد أن الناس في أوروبا والدول المتقدمه يذهبون لشراء إحتياجاتهم وهم يعلمون تماما أنه سيكون هناك طابور في إنتظارهم ، ولهذا نجد في يد كل منهم أو في سيارته الكتاب الذي سيقرأه في الطابور. إنها القاعدة التي قبلها الناس هناك ...... أن يحترموا الآخريين حتي ينالوا حقهم من الإحترام.

ولكن ماذا يحدث عندنا .. ؟

أنا لن أتحدث عن طابور العيش أو طابور أنبوبة الغاز أو طابور سداد فواتير التليفون لإن لكل منها قصة إنسانية ستجعل لكل طابور منهم ألف محامي يستطيع الدفاع عن الناس البسيطة المطحونة التي تتدافع للحصول علي لقمة العيش وأن مطالبتهم بالوقوف في طابور هو تحد واضح وصريح لأدميتهم التي أغتالتها صعوبة الحصول علي لقمة العيش. ونظرا لأنني من المعارضين لهذا الدفاع لإنني علي أتم القناعة أن الطابور هو إسلوب حياة وثقافة إن إنتهجناها فإنها ستولد لدينا ثقافة لاتقل أهمية عنها .. ألا وهي ثقافة القناعة والقبول و هو مانحتاج لفصل كامل للكتابة عنها، لذا فأنني لن أتكلم عن هذه الطوابير التي يغلفها الفقر والحاجة . ولكنني أتكلم عن هؤلاء الذين يجدون مايكفي معيشتهم بل ويفيض ليقوموا بالسفر خارج مصر إما للعمل أو للسياحة أو الزيارة أو أياكان الغرض .. أنهم يعيشون ويكسبون مايكفيهم ويزيد عن حاجاتهم للحصول علي كمالياتهم ولكنهم مازالوا يرفضون الوقوف في طابور حتي لا تُجرح وجاهتهم الإجتماعية.

في طريقي للسفر إلي المملكة العربية السعودية لأباشر عملي كإستشاري إدارة مشروعات وصلت إلي مطار القاهرة قبل ميعاد الطائرة بحوالي ساعتين – حسب النظام المعمول به – وعند بوابة الدخول حيث جهاز الكشف علي الشنط كان هناك طابور أمام البوابة وقد إصطف المسافرين في هذا الطابور من مصريين وسعوديين وأجانب من رجال ونساء بكل الأعمار للوصول إلي نقطة التفتيش. الكل يقف في نظام وسكون في إنتظار أن يتحرك الطابور للعبور من البوابة مع بعض الهمهمة الدائره في المكان تشكو بطء الحركة وإمكانية التأخر علي الطائرة ، إلا أن المسافرين قد قاموا بتهدئة أنفسهم حيث أنها فقط عشر دقائق ونصل جميعنا إن شاء الله.

وفجأة تفجرت ثقافة الذراع لتطيح بالطابور أرضا وتهزمه بلمس الأكتاف .

فجأة وجدنا شخصا متذرعا بثقافته معتمدا علي قوة لسانه وعلي قناعته أنه هو فقط علي حق يأتي أمامنا جميعا وهو يمسك بعربة الحقائب يدفعها ليمر من خلال الطابور وهو يقول :

بعد إذنك ياأستاذ

رجلك من فضلك ....

حاسب لو سمحت ....

حتي حط به المطاف أمامي متخطيا أكثر من عشرة أشخاص يقفون خلفي وعلي وجهه إبتسامه بلهاء صور له عقله أنه بهذه الإبتسامة يستطيع أن يجور علي حق كل هؤلاء.

أنا : علي فين ياأستاذ .. فيه طابور
الشخص : خليك في حالك يابيه .. أنا حاقف وراك
أنا : الناس دي كلها واقفه في الطابور
الشخص : يابيه بقولك أنا حأقف وراك
أنا : أنا مابقولكش تقف فين .. أنا بأقولك تقف في الطابور
الشخص : بقولك أيه .. موش أنا اللي مسافر . الست دي اللي مسافره ولوحدها
أنا : ماهي كل الستات دي مسافره برضه
الشخص : ياعم خلاص .. أنا واقف وراك أهوه

نظرت للناس من خلفي لعلي أجد مناصرا لي في قضيتي بالرغم من أنني لست متضررا لإن الشخص قرر أن يتفاداني ويقف ورائي ، ولكن العجيب أن الناس من خلفي وقفوا وهم ينتظرون نهاية هذا الحوار وكأنني وسيلة تسلية تساعدهم علي لحظات الإنتظار حتي ينقضي هذا الفيلم الذي إعتاده الكثير منا. لهذا قررت أن أخذ موقف من هذا المتذرع وأن أحل الموضوع بنفسي وبدون إنتظار مساعدة من أحد.

وقفت في مكاني وهذا الشخص يقف خلفي وشاورت لزميل الطابور خلفي ليتقدم هو ويعبر البوابة ، وبمنتهي الهدوء تقدم زميل الطابور وعبر البوابة وأنا أقف محتجزا الشخص خلفي ثم أشرت للذي يليه فالذي يليه وهكذا حتي مر سبعة أشخاص من أمامي في منتهي الهدوء وأنا ألمح في أعينهم نظرات الشكر ممزوجة بمسحة حزن علي ماوصلنا إليه.

الغريب جدا في هذه القصة أن الشخص وقف خلفي وفي عينيه نظرات التشفي لأنه إستطاع أن يجبرني علي أن أتخلي عن دوري في الطابور للأخريين في محاولتي لمنعه من تطبيق ثقافة الذراع وإجبارنا جميعا علي قبولها. كانت نظراته لي لاتنم عن إستيائه من الوقوف في الطابور بقدر ماكانت تنم عن سعادته لإنه إستطاع أن يرغمني أن أتخلي عن دوري للأخريين حتي ولو لم يستفيد هو من تنازلي هذا. تخيلوا أنه إنسان عادي مثلنا يستطيع الوقوف في طابور ... ولكنه فقط لايريد.
عبرت البوابة ودخلت إلي مكتب تسجيل السفر ولإنني كنت مسافرا علي الدرجة الأولي فقد ذهبت بدوري نحو المكتب المخصص لركاب الدرجة الأولي والذي يقف عليه مسافران أثنين فقط وكنت أنا الثالث ، وهذه الميزة توفرها شركات الطيران لركاب الدرجات المتقدمة مقابل زيادة أجرة السفر. أي أنها ميزة مدفوعة الأجر لمن يرغب ولكنها لاتعطي خصوصية لراكب عن أخر لعلاقته بمراقب المحطة أو بقائد الطيارة مثلا .

المهم أنني وأنا أقف في طابوري الجديد وجدت الشخص يأتي متقدما علينا وبيده جواز السفر ليعطيه إلي أحد العاملين بشركة الطيران والذي تلقفه وذهب به إلي الموظفة طالبا منها إنهاء الإجراءات.

نظرت إلي الشخص لأجد نظرات الإنتصار في عينيه وأن مالم أُمكِنه منه بالخارج في أن يكسر الطابور ويجور علي حقوقنا جميعا بذراعه إستطاع هو بكل بساطة تجاوزه الآن لأن لديه واسطة حيث أنه علي مايبدو شخص متعدد الأذرع.

تركت مكاني وذهبت إلي الموظفة وقلت لها بكل هدوء:

أنا : هل هذا المكان مخصص لركاب الدرجة الأولي
الموظفة : أيوة يافندم
أنا : وهل هذا الأستاذ من ركاب الدرجة الأولي
الموظفة : أنا عارفة شغلي كويس ياأستاذ
أنا : أسف ، بس حتي ولو كان درجة أولي لازم يقف في الطابور
الموظفة : إتفضل في الطابور وماتقلقش
أنا : أنا موش قلقان خالص ، أنا بس بأقولك إنه دوره بعدي
الموظفة : أنا عارفه شغلي ياأستاذ من فضلك

وقفت والذهول يملؤني من ردها الحاسم والذي يؤكد أنها ستقوم بعملها علي أكمل وجهه وأنها ستعطي كل منا حقه ولكن يبدو أن الحداية لايمكن بحال من الأحوال أن تحدف علينا الكتاكيت

العامل يذهب ويأخذ شنطة الشخص ويضعها علي الميزان متخطيا الأثنان اللذان يقفان أمامي وأنا معهم والشخص يقف مزهوا بإنتصاره علينا وفرض ثقافته علي كل الحضور. لم أستطيع تمالك نفسي وذهبت إلي الموظفة وبمنتهي الجدية طلبت منها أن توقف هذه المهزلة ولكنها نظرت إلي وكأنها تنظر إلي كائن فضائي غريب تجرأ وإعترض علي شئ يحدث عشرات المرات علي كل رحلة مقلعة من مطار القاهرة الدولي.

طلبت مقابلة مشرف الوردية وقلت لها أنها لن تكمل إجراءات سفر هذا الشخص قبل إنهاء إجراءات سفرنا نحن أولا وبدأ الصوت في الإرتفاع التدريجي ، الأمر الذي سَرّع من وصول مشرف الوردية والذي بدأ في إحتواء الموقف وأخذ تذكرة سفر الشخص وجواز سفره لينظر فيهم ويراجعهم ثم ينظر إلي الشخص ويسأله:

المشرف : فين المدام
الشخص : قاعدة هناك أهي
المشرف : طب خليها تيجي وتقف في طابور الدرجة السياحية اللي جنبنا ده
الشخص : مالمادمازيل خلصت خلاص
المشرف : حضرتك تذكرتك درجة سياحية وهنا طابور الدرجة الأولي
الشخص : يعني هما علي راسهم ريشة
المشرف : إتكلم بأدب لو سمحت ، ده النظام
الشخص : ولما الطيارة تفوتنا يعني حتتبسط
المشرف : لأ ماتخافش ، الطيارة موش حتطير إلا لما كل الركاب يركبوا
الشخص : (وهو ينظر إلي ) هوه إنتوا أيه ....أشترتونا ، ده أنت موش حاتورد علي جنة ..

نظرت ولم أبتسم ولكنني كنت مثقلا بالتفكير ، هل يمكن حقا أن نتغير ؟

هل يمكننا فعلا مقاومة هذه الثقافة الملعونة ؟

هل سنستطيع يوما أن نجد الشعب المصري يقف في الطابور وهو لايشعر بالخزي لأنه لايجد واسطة يستطيع بها أن يمر من الطابور وأن يأخذ مايريد بدون إنتظار لأحد ؟

هل نستطيع أن نحافظ علي حقي وحقك وحق أولادنا في المستقبل ؟

تري أين تكمن المشكلة ؟

إنني أكيد من أن معظمنا يستطيع الإنتظار .. ولما لا وقد تعودنا إنتظار فرصة العمل وإنتظار لقمة العيش بل أن الكثير من مشجعي فريق الزمالك مثلا ينتظرون أن يفوز فريقهم ببطولة منذ ست سنوات ولم يجعلهم هذا يتوقفوا عن تشجيعه والذهاب إلي الإستاد لمساندة فريقهم حتي وهم يعلمون أنه لا أمل له في المنافسه علي البطولة.

إننا نستطيع الإنتظار .... نعم نستطيع

ولكننا لا نريد عندما تسنح لنا الفرصة – وعادة مانقنع أنفسنا أن الفرصة سانحة لإننا نريد ذلك.

فإن كانت هذه الثقافة قد تمكنت منا بحيث أصبح التغيير من الصعوبة بالشكل الذي يمنعنا من التطبيق ، فأعتقد أن الحل هو في فرض النظام لا في وضعه.

إذا كنا لانستطيع منع أنفسنا من تجاوز حقوق الآخريين حتي في ظل وجود القوانين التي تمنع أو تجرم هذا التجاوز ، فلنعمل علي تطبيق هذه القوانين وفرضها علينا.

لماذا لايتم تحديد مسارات الطوابير بوضع سلاسل معدنية تحدد المسار بالعرض الذي يكفي لفرد واحد حتي لايستطيع أحد المرور إلا إذا وقف في الطابور ؟

عند ذهابك إلي مطار دبي ستجد بوابة الدخول وقد تم تحديد المسار فيها بهذه السلاسل المعدنية والتي يقف فيها الجميع في إنتظار دورهم ولايستطيع أحد المرور منها إلا إذا مر فوق رقاب العباد.

حتي في دبي حيث الثقافة والرقي في التعامل تم فرض القانون ، حتي إذا أتي أحد من خارج إطار هذه الثقافة فإنه لن يجد مفر من إتباعها مضطرا حتي ولو إستطاع أن يجد له واسطة تمكنه من كسر القاعدة.
إنني أؤكد لكم أن المصريين عندما يسافرون إلي خارج مصر ، فإنهم يتبعون القوانين وأصول التعامل لأقصي مدي وكأنهم يعيشون ويتنفسون هذه الأصول في بلادهم. إنه الإنفصام الذي نعيشه بمجرد أن نتحرك إلي خارج البلاد .

أرجوكم ...... إجبرونا علي تطبيق القانون إن كنتم حقا تريدون أن تطبقوه.

ليست هناك تعليقات: